فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَأَلْقَى الالواح} أي وضعها على الأرض كالطارح لها ليأخذ برأس أخيه مما عراه من فرط الغيرة الدينية وكان عليه السلام شديد الغضب لله سبحانه.
فقد أخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارًا.
وقال القاضي ناصر الدين: أي طرحها من شدة الغضب وفرط الضجرة حمية للدين، ثم نقل أنه انكسر بعضها حين ألقاها، واعترض عليه أفضل المتأخرين شيخ مشايخنا صبغة الله أفندي الحيدري بأن الحمية للدين إنما تقتضي احترام كتاب الله تعالى وحمايته أن يلحق به نقص أو هوان بحيث تنكسر ألواحه ثم قال: والصواب أن يقال: إنه عليه السلام لفرط حميته الدينية وشدة غضبه لله تعالى لم يتمالك ولم يتماسك أن وقعت الألواح من يده بدون اختيار فنزل ترك التحفظ منزلة الإلقاء الاختياري فعبر به تغليظًا عليه عليه السلام فإن حسنات الأبرار سيآت المقربين انتهى.
وتعقبه العلامة صالح أفندي الموصلي عليه الرحمة بأنه لا يخفى أن هذا الإيراد إنما نشأ من جعل قول القاضي حمية للدين مفعولًا له لطرحها وهو غير صحيح، فقد صرح في أوائل تفسيره لسورة طه بأن الفعل الواحد لا يتعدى لعلتين وإنما هو مفعول له لشدة الغضب وفرط الضجرة على سبيل التنازع، والتوجيه الذي ذكر للآية هو ما أراده القاضي وتفسيره الإلقاء بالطرح لا ينافي ذلك على ما لا يخفى. اهـ، وأقول أنت تعلم أن كون هذا التوجيه هو ما أراده القاضي غير بين ولا مبين على أن حديث كون التعبير بالإلقاء تغليظًا عليه عليه السلام منحط عن درجة القبول جدًّا إذ ليس في السباق ولا في السياق ما يقضي بكون المقام عتاب موسى عليه السلام ليفتي بهذا التغليظ نظرًا إلى مقامه صلى الله عليه وسلم بل المقام ظاهر في الحط على قومه كما لا يخفى على من له أدنى حظ من رفيع النظر، والذي يراه هذا الفقير ما أشرنا إليه أولًا.
وحاصله أن موسى عليه السلام لما رأى من قومه ما رأى غضب غضبًا شديدًا حمية للدين وغيرة من الشرك برب العالمين فعجل في وضع الألواح لتفرغ يده فيأخذ برأس أخيه فعبر عن ذلك الوضع بالإلقاء تفظيعًا لفعل قومه حيث كانت معاينته سببًا لذلك وداعيًا إليه مع ما فيه من الإشارة إلى شدة غيرته وفرط حميته وليس في ذلك ما يتوهم منه نوع إهانة لكتاب الله تعالى بوجه من الوجوه، وانكسار بعض الألواح حصل من فعل مأذون فيه ولم يكن غرض موسى عليه السلام ولا مر بباله ولا ظن ترتبه على ما فعل، وليس هناك إلا العجلة في الوضع الناشئة من الغيرة لله تعالى، ولعل ذلك من باب {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى} [طه: 84] واختلفت الروايات في مقدار ما تكسر ورفع، وبعضهم أنكر ذلك حيث أن ظاهر القرآن خلافه.
نعم أخرج أحمد وغيره وعبد بن حميد والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله تعالى موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر» فتأمل ولا تغفل، وما روي عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح رفع منها ستة أسباع وبقي سبع، وكذا ما روي عن غيره نحوه مناف لما روي فيما تقدم من أن التوراة نزلت سبعين وقرا يقرأ الجزء منهفي سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام.
وكذا لما يذكر بعد من قوله تعالى: {أَخَذَ الالواح} [الأعراف: 154] فإن الظاهر منه العهد.
والجواب بأن الرفع لما فيها من الخط دون الألواح خلاف الظاهر والله تعالى أعلم بحقيقة الحال {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} أي بشعر رأس هارون عليه السلام لأنه الذي يؤخذ ويمسك عادة ولا ينافي أخذه بلحيته كما وقع في سورة طه أو أدخل فيه تغليبًا {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} ظنًا منه عليه السلام أنه قصر في كفهم ولم يتمالك لشدة غضبه وفرط غيظه أن فعل ذلك وكان هارون أكبر من موسى عليهما السلام بثلاث سنين إلا أن موسى أكبر منه مرتبة وله الرسالة والرياسة استقلالًا وكان هارون وزيرًا له وكان عليه السلام حمولًا لينًا جدًّا ولم يقصد موسى بهذا الأخذ إهانته والاستخفاف به بل اللوم الفعلي على التقصير المظنون بحكم الرياسة وفرط الحمية، والقول بأنه عليه السلام إنما أخذ رأس أخيه ليساره ويستكشف منه كيفية الواقعة مما يأباه الذوق كما لا يخفى على ذويه، ومثله القول بأنه إنما كان لتسكين هارون لما رأى به من الجزع والقلق، وقال أبو علي الجبائي: إن موسى عليه السلام أجرى أخاه مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان به عند شدة الغضب، وقال الشيخ المفيد من الشيعة: إن ذلك للتألم من ضلال قومه وإعلامهم على أبلغ وجه عظم ما فعلوه لينزجروا عن مثله ولا يخفى أن الأمر على هذا من قبيل:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ** فكأنني سبابة المتندم

ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى.
وجملة {يَجُرُّهُ} في موضع الحال من ضمير موسى أو من رأس أو من أخيه لأن المضاف جزء منه وهو أحد ما يجوز فيه ذلك، وضعفه أبو البقاء {قَالَ} أي هارون مخاطبًا لموسى عليه السلام إزاحة لظنه {ابن أُمَّ} بحذف حرف النداء لضيق المقام وتخصيص الأم بالمذكر مع كونهما شقيقين على الأصح للترقييق، وقيل: لأنها قامت بتربيته وقاست في تخليصه المخاوف والشدائد، وقيل: إن هارون عليه السلام كانت آثار الجمال والرحمة فيه ظاهرة كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون نَبِيًّا} [مريم: 53] وكان مورده ومصدره ذلك، ولذا كان يلهج بذكر ما يدل على الرحمة، ألا ترى كيف تلطق بالقوم لما قدموا على ما قدموا فقال: {يا قوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن} [طه: 90] ومن هنا ذكر الأم ونسب إليها لأن الرحمة فيها أتم ولولاها ما قدرت على تربية الولد وتحمل المشاق فيها وهو منزع صوفي كما لا يخفى، واختلف في اسم أمهما عليهما السلام فقيل: محيانة بنت يصهر بن لاوى، وقيل: يوحانذ، وقيل: يارخا، وقيل: يازخت، وقيل: غير ذلك، ومن الناس من زعم أن لاسمها رضي الله تعالى عنها خاصية في فتح الأقفال وله رياضة مخصوصة عند أرباب الطلاسم والحروف وما هي إلا رهبانية ابتدعوها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم هنا وفي طه {ابن أُمَّ} بالكسر وأصله ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفًا كالمنادى المضاف إلى الياء.
وقرأ الباقون بالفتح زيادة في التخفيف أو تشبيهًا بخمسة عشر {إِنَّ القوم} الذين فعلوا ما فعلوا {استضعفونى} أي استذلوني وقهروني ولم يبالوا بي لقلة أنصاري {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى} وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن ذلك؛ والمراد أني بذلت وسعي في كفهم ولم آل جهدًا في منعهم {فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء} أي فلا تفعل ما يشمتون بي لأجله فإنهم لا يعلمون سر فعلك، والشماتة سرور العدو بما يصيب المرء من مكروه.
وقرئ {فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء} بفتح حرف المصارعة وضم الميم ورفع الأعداء حطهم الله تعالى وهو كناية عن ذلك المعنى أيضًا على حد لا أرينك هاهنا.
والمراد من الأعداء القوم المذكورون إلا أنه أقيم الظاهر مقام ضميرهم ولا يخفى سره {وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين} أي لا تجعلني معدودًا في عدادهم ولا تسلك بي سلوكك بهم في المعاتبة، أو لا تعتقدني واحدًا من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم، فالجعل مثله في قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} [الزخرف: 19]. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [150].
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} أي: شديد الغضب على قومه لعبادتهم العجل، وحزينًا أي: على ما فاته من مناجاة ربه {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ} أي: بئسما عملتم خلفي، أو قمتم مقامي، وكنتم خلفائي من بعدي والخطاب إما لعبدة العجل، من السامري وأشياعه، أو لوجوه بني إسرائيل، وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه. ويدل عليه قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}، وعلى التقدير يكون المعنى: بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى.
قال الرازي: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} أي: ميعاده الذي وعدنيه من الأربعين، فلم تصبروا إلى تمامها، وكانوا استبطأوا نزوله من الجبل، فتآمروا في صنع وثن يعبدونه، وينضمون إليه، وفعلوا ذلك وجعلوا يغنون ويرقصون ويأكلون ويشربون ويلعبون حوله ويقولون: هذا الإله الذي أخرجنا من مصر- عياذًا بالله-.
وقال أبو مسلم: معناه سبقتم أمر الله، فعبدتم ما لم يأمركم به: {وَأَلْقَى الألْوَاحَ} أي: طرحها من شدة الغضب، وفرط الضجرة بين يديه فتكسرت، وهي ألواح من حجارة كتب فيها الشرائع والوصايا الربانية، وإنما ألقاها، عليه السلام، لما لحقه من فرط الدهش عند رؤيته عكوفهم على العجل، فإنه عليه السلام لما نزل من الجبل، ودنا من محلتهم رأى العجل ورقصهم حوله، اتقد غضبه فألقاها غضبًا لله، وحمية لدينه، وكان هو في نفسه حديدًا، شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانبًا، ولذلك كان محببًا إلى قومه.
تنبيه:
قال السيوطي في الإكليل: استدل ابن تيمية بقوله تعالى: {وألْقَى الألواحَ} على أن من ألقى كتابًا على يده، إلى الأرض وهو غضبان، لا يلام. انتهى. وهو ظاهر.
{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} أي: بشعره {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} ظنًا أن يكون قصر في نهيهم، كما قال في الآية الأخرى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي}.
وقال هاهنا: {قَالَ ابْنَ أُمَّ} قرئ الفتح والكسر.
وأصله يا ابن أمي، خفف بحذف حرف النداء والياء، وذكر الأم ليرققه عليه، وقوله: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} إزاحة لتوهم التقصير في حقه.
والمعنى: بذلت وسعي في كفّهم حتى قهروني واستضعفوني، وقاربوا قتلي، {فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء} أي: بالإساءة إلي. الشماتة سرور الأعداء بما يصيب المرء {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: في عقوبتك لي، في عدادهم، أو لا تعتقد أني منهم، مع براءتي وعدم تقصيري.
قال الجشمي: تدل الآية على أن الأمر بالمعروف قد يسقط في حال الخوف على النفس، وفي الحال الذي يعلم أنه لا ينفع، لذلك قال هارون: {اسْتَضْعَفُونِي}. وتدل على أن الغضب والأسف على المبتدع محمود في الدين. انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي}.
جُعل رجوع موسى إلى قومه غضبان كالأمر الذي وقع الإخبار عنه من قبلُ على الأسلوب المبين في قوله: {ولما جاء موسى لميقاتنا} [الأعراف: 143] وقوله: {ولما سُقط في أيديهم} [الأعراف: 149].
فرجوع موسى معلوم من تَحقق انقضاء المدة الموعود بها، وكونُه رجع في حالة غضب مشعر بأن الله أوحى إليه فأعلمه بما صنع قومُه في مغيبه، وقد صرح بذلك في سورة طه (85) {قال فإنّا قد فتنّا قومك من بَعدِك وأضلهم السامري} ف {غضبان أسِفًا} حَالان من موسى فهما قيداننِ لرجع فعلم أن الغضب والأسف مقارنان للرجوع.
والغْضب تقدم في قوله: {قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب} في هذه السورة (71).
والأَسِف بدون مد، صيغة مبالغة للآسف بالمد الذي هو اسم فاعل للذي حل به الأسف وهو الحزن الشديد، أي رجع غضْبان من عصْيان قومه حزينًا على فساد أحوالهم، وبئسما ضد نِعمّا، وقد مضى القول عليه في قوله تعالى: {قل بئسما يأمركم به إيمانكم} في سورة البقرة (93)، والمعنى بئست خلافة خلفتمونيها خِلاَفتُكم.